العبودية لله بما فيها من عظيم المحبة، وشدة الفقر والذل، حياة للقلب وسر سعادته ووجوده، يسير فيها الإنسان بين رجائه وخوفه، يطلب بذلك ما عند الله ولا يبتغي إلا رضاه وهو في تلك الحالة يتقلب بين مقامات العبودية وقلبه متعلق بمولاه فللعبودية مقامات تنال بالطاعات وكلما اجتهد الإنسان ترقي في مقامات العبودية التي سوف نسرد بعضا منها في السطور الآتية
أول مقامات العبودية، معرفة الله سبحانه؛ فلا يرد على القلب من العلوم والمعارف أعظم من ذلك الوارد، ولا تلتذ النفس بأعظم من تلك المعرفة. وكلما ازداد العبد معرفة، ازداد قلبه قوةً، ونفسه انشراحا وسعادة. فمعرفة الله أعظم مقصود “فهو الأول الذي خلق الكائنات، والآخر الذي تصير إليه الحادثات. فالعلم به أصل كل علم وجامعه، وبهذه المعرفة، يتحقق له الغنى “فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله، محبةً وتعظيما وإجلالا ومهابة” (جامع العلوم والحكم، 2/ 417).
فإذا وقف العبد على فقره وحاجته، واستشعر ذلَّه الذي هو لا زم له، أدرك عظمة الله تعالى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” (فاطر، الآية 15). فالله هو الغني بذاته، الفقير إليه كل ما سواه. وهو أهلٌ لأن يحمد سبحانه؛ فهو المالك المتصرف. فلا تكتمل العبودية حتى يلج العبد من مقام المعرفة إلى استشعار فقره وحاجته، فلا يكون لنفسه من شيء. فتجد القلب -والحالة هذه- متحركا بالشوق إلى مولاه، نابضا بالمحبة، متخشعا بين يديه، لا يرى لنفسه فضلا على أحد .
ومن مقامات العبودية، تَطلبُ الأمر والنهي والتشريع. فالوقوف على غنى الخالق، وعظمته، وجليل نعمته، وحكمته، وسعة علمه، يَتَطلب الأمر والنهي. وهنا تعظم الحاجة ويشتد فقر النفس إلى تدبير شؤونها وتنظيم سيرها في دار التكليف، فتعلم أن لله حدودا قد عظمها، وأحكاما قد فرضها؛ فتُعظّم وحيه، وتصون أمره، وتسير في نور نوره، وشعارها التسليم لحكمه والعمل بأمره، فلا تعارضه بهواها ولا تقدم بين يديه سياسة ولا معقولا، وتعرض شؤونها عليه ولا تعرضه على شيء “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا”( الأحزاب، الآية 36)؛ فتكون الحياة في سبيل الله على وفق مراد الله، والموت في سبيله، والعمل والترك له: “قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الأنعام، الآية 162).
ومن مقامات العبودية، تعظيم الأمر والنهي. فإذا أدرك العبد حكمة سيده وعظيم شأنه وفقره إليه، عظّم أمره ونهيه، وهو من تعظيم الآمر والناهي. ومن علامات التعظيم، الأخذ بما أباح والعمل بما أوجب، وترك الحرام، وتعظيم العزيمة، والأخذ بالرخصة، وضبط النفس ألا تتعلق بحبائل الحيل: “ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ” (الحج، الآية 32). ومن مقتضيات التعظيم، المبادرة إلى الفعل، وتجنب الشبهات، والتعالي عن الشهوات، ودوام المراقبة، وبغض المعصية والحزن على فعلها، والمبادرة بالتوبة، ودوام الذكر.