مصالح الأوطان لا تنفك عن مقاصد الأديان , والوطنية الحقيقية ليست شعارات ترفع أو عبارات تردد , إنما هي إيمان بالوطن وعمل دءوب على رفعة شأنه أو استعداد دائم للتضحية من أجله.
وفي السياق والمناخ الفكري الصحي لا يحتاج الثابت الراسخ إلى دليل , لكن اختطاف الجماعات المتطرفة للخطاب الديني واحتكارها له ولتفسيراته جعل ما هو في حكم المسلمات محتاجًا إلى التدليل والتأصيل , وكأنه لم يكن أصلاً ثابتًا , فمشروعية الدولة الوطنية أمر غير قابل للجدل أو التشكيك , بل هو أصل راسخ لا غنى عنه في واقعنا المعاصر .
وقد قرر الفقهاء أن العدو إذا دخل بلدًا من بلاد المسلمين صار الجهاد ودفع العدو فرض عين على أهل هذا البلد رجالهم ونسائهم , كبيرهم وصغيرهم , قويهم وضعيفهم , مسلحهم وأعزلهم , كل وفق استطاعته ومُكنته , حتى لو فنوا جميعًا , ولو لم يكن الدفاع عن الديار مقصدًا من أهم مقاصد الشرع لكان لهم أن يتركوا الأوطان وأن ينجوا بأنفسهم وبدينهم .
على أن المواطنة الحقيقية تعني حسن الولاء والانتماء للوطن ، والحرص على أمن الدولة الوطنية ، واستقرارها ، وتقدمها ، ونهضتها ، ورقيها , كما تعني الالتزام الكامل بالحقوق والواجبات.
ومن واجب الوطن على أبنائه أن ينفروا خفافا وثقالا حيث اقتضت مصلحة الوطن ذلك , وإذا كان من واجبهم افتداؤه بأرواحهم ودمائهم متى تطلب الأمر ذلك , فإن مشاركتهم الإيجابية في كل ما تقتضيه مصلحة الوطن هو أضعف الإيمان في باب الانتماء الوطني وحب الوطن والإخلاص له .
ولا شك أن هذه الإيجابية التي ننشدها ونسعى إليها , ونعمل على تحقيقها واقعا ملموسا في حياتنا , تقتضي المشاركة الفاعلة في كل الاستحقاقات القانونية والدستورية , وأن نحكم ضميرنا الوطني ونعلي مصلحة الوطن فوق كل المصالح الضيقة شخصية أو حزبية حتى نبني بلدنا ونسهم بقوة في تحقيق تقدمه ورقيه , وتبقى عملية الاختيار مسألة ضمير وطني خالص وفق ما يمليه هذا الضمير على صاحبه في اختياراته , بل في كل شئون حياته.
حب الوطن – أيضا- يكون بالعمل والإنتاج والإتقان , حب الوطن يكون بالتكافل والتراحم بين أبنائه , ولا سيما أننا مقبلون على شهر الخير واليمن والبركات .
حب الوطن وقضاء حوائج الناس أمر لا ينفك عن التدين الصحيح بل هو لازمة من لوازمه , يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ” (صحيح مسلم) , لما في ذلك من كف الشر والأذى عن الناس , ويقول (صلى الله عليه وسلم) : “كُفَّ أَذَاكَ عَنِ الناس فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بها عن نَفْسِكَ” (رواه أحمد) , فما بالكم بمن يسعى في الخير والبر وقضاء حوائج الناس , والعمل على رقيّ وطنه وتقدمه ؟