هل يتعارض صريح المعقول مع صحيح المنقول سؤال مهم يتبادر علي أصحاب العقول والأفئدة السليمة بحثا عن الحقائق ودفعا للشبهات سواء من القائلين بأهمية العقل وضرورة تحكيمه في أمور الحياة أو من القائلين باتباع النقل مادامت هناك نصوص شرعية قاطعة، و العقلُ الصريح موافق للنقل الصحيح، ولا يتعارضان أبداً، فالنقل هو أمر الله ووحيه سواء كان قرآنا أو سنة، والعقل من خلق الله، فلا يمكن أن يتعارض أمره وخلقه أي أمر الله وأمر خالق فالصانع أعلم بما خلق والمصنوع مهما بلغ به الكمال والرشد فإنه لا ييتعالي ويتفوق علي من صنعه، قال تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] وقد احسن الامام ابن القيم في الرد علي هذا الأمر فإلي التفاصيل
قال ابن القيم في “الصواعق المرسلة” (2/ 459):”والذين زعموا من قاصري العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضهما، إنما أتوا من جهلهم بحكم العقل ومقتضى السمع، فظنوا ما ليس بمعقول معقولا، وهو في الحقيقة شبهات توهم أنه عقل صريح وليست كذلك، أو من جهلهم بالسمع إما لنسبتهم إلى الرسول ما لم يُرده بقوله، وإما لعدم تفريقهم بين ما لا يدرك بالعقول وبين ما تدرك استحالته بالعقول، فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظن التعارض بين السمع والعقل، ونقل في كتابه “الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة”، بعض الردود نذكر منها:
أولا: الدين ُكاملٌ فلا حاجة إلى عقل أو غيره لاتمامه، فإنه ما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وأكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ثانيا: لم يكن من طريقة السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم تقديم معقولهم على النصوص، مع أنهم أكمل الناس عقلا وعلما وفقها، بل كانوا يعلنون النكير على من يقابل النصوص رأيه وعقله.
ثالثا: إن تقديم العقل على النقل هو نسفٌ للعقل والنقل معا، فلا حجة بشيء بعد ذلك.
رابعا: تقديم العقل على النقل أمر لا ينضبط ولا نهاية له، لأن لكل فرد وجماعة وملة عقلها الذي تعظمه، وهم مختلفون وفي أمر مريج.
خامسا: تقديم العقل على النقل هو اتباع للمتشابهات المجملات وترك المحكمات.
سادسا: وهذا القانون لا يتأتى على طريقة المؤمنين المصدقين من أتباع المرسلين، بل هو سائر في سبيل أعداء الدين، قال ابن القيم في “مختصر الصواعق المرسلة” (ص: 145):” أن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لا تتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقا، ولا على أصول أحد من أهل الملل المصدقين بحقيقة النبوة، ليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء، وإنما تتأتى هذه المعارضة ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة ويجريها على أوضاعهم” انتهى.
سابعا: القول بتقديم العقل على النقل يؤدي إلى عدم الاستدلال بالوحي على شيء من المسائل العلمية مما يؤدي إلى عدم التصديق بالوحي فالكفر بالله ورسوله والعياذ بالله .
ثامنا:القول بتقديم العقل على النقل يؤول بصاحبه إما إلى التفويض أو التعطيل، يقول ابن القيم في “الصواعق المرسلة ” (3/ 917-925):” إنَّ غاية ما ينتهي إليه من ادعى معارضة العقل للوحي أحد أمور أربعة لا بد له منها:
– إما تكذيبها وجحدها.
– وإما اعتقاد أن الرسل خاطبوا الخلق بها خطابا جمهوريا لا حقيقة له وإنما أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال.
– وإما اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن حقائقها وما تدل عليه إلى المجازات والاستعارات.
– وإما الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلا الله.