“نورد ستريم-2” الروسي وغاز شرق المتوسط
الولايات المتحدة ترفض الموقف الأوروبي وتفرض عقوبات هائلة على الشركات الألمانية والروسية التي تنفذ المشروع.. فما هي دوافع واشنطن؟
رغم المخاطر الجيوسياسية التي ينطوي عليها خط الغاز الروسي “Nord Stream-2” أو “السيل الشمالي-2” الذي يهدف إلى توصيل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً إلى أوروبا خاصة ألمانيا فإن الحكومة الألمانية أكدت أنها ماضية في المشروع رغم فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات قاسية على الشركات الروسية والألمانية المشاركة في المشروع.
وعبرت برلين عن استعدادها ليس فقط لتحدي العقوبات الأمريكية، بل للتوصل إلى اتفاق مع أمريكا لشراء الغاز الأمريكي المسال، وهو الأغلى سعراً، ويتطلب إنشاء محطات إسالة بالمليارات، فماذا وراء الإصرار الألماني على هذا الخط؟ وما علاقة ذلك بضعف واردات الغاز الجزائرية والنرويجية والهولندية؟ وهل غاز شرق المتوسط يعد الحل المثالي لهذه القضية التي تعصف بالعلاقات الأمريكية الأوروبية؟
لماذا “نورد ستريم-2″؟
خاضت ألمانيا صراعا دبلوماسيا مع فرنسا ودول شرق أوروبا خاصة بولندا ودول بحر البلطيق الثلاث، من أجل إقناعها بجدوى “نورد ستريم-2″، ومدى أهميته لمستقبل الصناعة الأوروبية، وتصر ألمانيا على تنفيذ الخط الذي يعبر أسفل بحر البلطيق، ويمر في 5 دول هي روسيا وفنلندا والسويد والدنمارك وألمانيا، وينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، وتشارك روسيا في المشروع بـ50%، بينما تشارك الشركات الألمانية بـ50% الأخرى، واعتمدت الحجج الألمانية على مجموعة من المحاور لإقناع شركائها الأوروبيين وهي:
1- إن عام 2022 سيشهد توقف ألمانيا عن استخدام المحطات النووية التي تنتج الطاقة الكهروذرية، كما ستتوقف ألمانيا رابع اقتصاد في العالم وأكبر اقتصاد في أوروبا مع دول أوروبية أخرى عن استخدام الفحم لإنتاج الطاقة، بالإضافة إلى أن برلين ستحتاج مزيدا من الغاز مع دول الجناح الغربي في الاتحاد الأوروبي لرفع معدلات النمو الصناعي، وهو ما يستلزم ضمان ضخ الغاز بشكل دائم، وتشير الأرقام إلى زيادة معدلات الاستهلاك الأوروبية خاصة ألمانيا من الطاقة، حيث زاد اعتماد ألمانيا على الغاز إلى 30% عام 2018، كما وصل حجم الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي بنسبة 40%، بينما تحصل ألمانيا وحدها على 50% من حجم الواردات الأوروبية من الغاز، حيث استهلكت أوروبا وحدها 205 مليارات متر مكعب من الغاز بنهاية عام 2018.
2- تراجع كميات الغاز التي تصل إلى أوروبا خاصة عبر الخط الروسي الأوكراني بسبب الخلافات بين كييف وموسكو، ورغم توقيع اتفاق جديد بين أوكرانيا وروسيا خلال الأسبوع الماضي فإن ألمانيا تخشى من تفاقم الخلافات الروسية الأوكرانية التي بدأت منذ عام 2014 بعد إعادة سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، واندلاع الحرب شرق أوكرانيا في إقليمي دونباسك ولوجانسك، وهو ما يهدد مرور الغاز الروسي لأوروبا عبر أوكرانيا، وهذا سبب هام للتمسك الأوروبي بـ”نورد ستريم-2″ رغم أنه يكلف 11 مليار دولار ويمتد إلى 1200 كيلومتر.
3- تراجع إنتاج الغاز في أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي وهما هولندا والنرويج، بعد أن أعلنت الحكومة الهولندية أن إنتاج الغاز سيتراجع بشكل حاد بعد أن رصدت هيئة الزلازل الهولندية أن النشاط الزلزالي تزايد في الفترة الأخيرة نتيجة سحب الغاز من باطن الأرض، ولذلك تعمل هولندا في الوقت الراهن على تخفيض الغاز من حقل جرونينجين للغاز من 53 مليار متر مكعب نهاية 2019 إلى 12 مليار متر مكعب عام 2022.
4- فاجأت النرويج الدول الأوروبية عندما أعلنت في شهر أبريل/نيسان الماضي أن الحقول النرويجية للغاز، التي جعلت من النرويج ثاني مورد غاز لأوروبا بعد روسيا، في طريقها للنضوب، وأن هناك حقلا وحيدا يمكن أن يزيد إنتاجه وهو حقل “ترول” الذي ينتج 40 مليار متر مكعب من الغاز في العام الواحد، لكن الحكومة النرويجية اعتذرت عن زيادة الإنتاج من هذا الحقل، نظراً لأن أنبوب نقل الغاز لا يمكن أن ينقل أكثر من السعة الحالية.
5- وصلت أزمة الغاز في أوروبا إلى ذروتها عندما أبلغت الجزائر، وهي ثالث مورد غاز للاتحاد الأوروبي، الجانب الأوروبي أنها تستعد لوقف تصدير الغاز تماماً للقارة العجوز، بسبب زيادة الطلب المحلي في الجزائر ورغبة الحكومة الجزائرية في استخدام مزيد من الغاز في الصناعة
الموقف الأمريكي
رغم كل هذه الأسباب والدوافع الأوروبية للمضي قدماً في خط “نورد ستريم-2” فإن الولايات المتحدة ترفض الموقف الأوروبي، وأيد الكونجرس فرض عقوبات هائلة على الشركات الألمانية والروسية التي تنفذ المشروع، فما هي دوافع واشنطن لرفض دخول مزيد من الغاز الروسي إلى أوروبا؟
أولا: ترى واشنطن في “نورد ستريم-2″ تغييرا لـ”المعادلة السياسية” في أوروبا أكثر منه مشروعا اقتصاديا، وأنه سيزيد من حجم النفوذ الروسي والأحزاب الشعبوية التي تدعمه داخل الاتحاد الأوروبي، ويؤدي هذا الأمر إلى “ابتزاز سياسي” روسي في قضايا تتعلق بالعلاقات الروسية الأمريكية، كما ترى واشنطن أن دخول الغاز الروسي بهذه الطريقة واعتماد الأوروبيين بنسبة ستزيد على 53 % عندما يكتمل “نورد ستريم-2” على روسيا في قضية الغاز سيجعل من أوروبا “رهينة للكرملين”، ولن تكون قادرة على اتخاذ قرارات تتعلق بروسيا في الفترة المقبلة.
ثانيا: تطرح واشنطن سؤالا على الأوروبيين، هل أنتم تقاومون روسيا أم تساعدونها؟ فالولايات المتحدة ترى أن الأموال التي ستحصل عليها موسكو من “نورد ستريم-2” ستعزز من قدرة روسيا على مواجهة الولايات المتحدة والناتو، وتعتبر الولايات المتحدة هذا المشروع دعما كاملا لروسيا ومكافأة لها بعد السيطرة على القرم.
وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أكثر من مناسبة “بينما نحن ندفع الأموال لحلف الناتو لحماية الأوروبيين تقوم الدول الأوروبية بدفع المليارات لروسيا للوقوف في وجه حلف الناتو”، وهذه القضية دفعت الولايات المتحدة إلى التشدد في قضيتين، الأولى ضرورة أن تلتزم الدول الأوروبية بدفع 2% من دخلها القومي لحلف الناتو، وتفكير واشنطن في فرض بعض الإجراءات الجمركية على منتجات أوروبية مثل النبيذ الفرنسي والسيارات الألمانية.
البديل المثالي
لكل هذه الخلافات الأوروبية والأمريكية ترى الدول الأوروبية وحتى الولايات المتحدة أن غاز شرق المتوسط هو “البديل المثالي” للغاز الروسي، وأن غاز شرق المتوسط في أسوأ الحالات سيضعف “مساحة المناورة” الروسية مع أوروبا، ولذلك شجع الاتحاد الأوروبي مجموعة من الخطوات بشأن غاز شرق المتوسط من أبرزها:
1- قيام الاتحاد الأوروبي بعمل كل دراسات الجدوى الخاصة بغاز شرق المتوسط، وشجع الاتحاد الأوروبي مصر لتتحول كمركز إقليمي للطاقة، وشاركت الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة في تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط بالقاهرة.
2- تتشارك الشركات الأوروبية والأمريكية في الحفر واستكشاف الغاز والنفط لدى كل دول حوض شرق المتوسط التي تأكد لها وجود احتياطيات كبيرة، مثل حقل أفروديت في قبرص، وظهر في مصر، وحقول تمارا وليفياثان في إسرائيل، ولهذا تعد قضية الغاز في شرق المتوسط “قضية أوروبية بامتياز”، وأن الاتحاد الأوروبي سيكون مستعدا للدفاع عن استقرار المنطقة حتى لو استمرت ألمانيا في تنفيذ خط “نورد سنريم 2” خاصة بعد فشل خط الغاز القطري- التركي الذي كان يتوجب عليه المرور في سوريا وهو ما لا يمكن أن تقبل به روسيا.
3- شجع الاتحاد الأوروبي مصر وقبرص على توقيع اتفاقية لمد أنبوب لنقل الغاز من الحقول القبرصية إلى محطتي إدكو ودمياط لإسالة الغاز، كما شجع مد أنبوب آخر من السواحل المصرية تجاه قبرص ومنها لجزيرة كريت اليونانية حتى أوروبا عبر الأراضي الإيطالية، كما أن إسرائيل واليونان ستوقعان خطا لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا في الثاني من شهر يناير/كانون الثاني المقبل في أثينا.
كل هذه الأسباب والمواقف تجعل الاتحاد الأوروبي مستعدا لعمل كل شيء من أجل نجاح وصول غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، وهو ما يفسر إجماع الاتحاد الأوروبي على دعم دول المنطقة في مواجهة السلوك التركي الساعي لزعزعة الاستقرار في شرق المتوسط.