وصف الله -عز وجل- نفسه بأنه الرحمن والرحيم؛ وهما صفتان من الرحمة، فالله -سبحانه وتعالى- هو الرحيم بعباده وحده دون سواه، ورحمة الله لا تُماثل رحمة المخلوقين، ولا شك أن رحمة الله -تعالى- لا يضاهيها شيءٌ، فهي تفوق كل شيء، يقول تعالى: (وَرَحمَتي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ)، وقد شبّه النبي رحمة الله -تعالى- للصحابة بمشهدٍ حقيقيٍّ حصل أمامهم، إذ أضاعت أمٌّ ابنها الرضيع في الحرب، وبعد انتهاء الحرب أخذت تبحث عنه في القتلى والجرحى، فلما وجدته أخذته وضمّته، فسأل النبي أصحابه: (أَتَرَوْنَ هذِه المَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا، وَاللَّهِ وَهي تَقْدِرُ علَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَا).وتعدّ صفة الرحمن أبلغ من صفة الرحيم، وخصّ الله -سبحانه وتعالى- نفسه بصفة الرحمن، أما صفة الرحيم فتستخدم أيضاً في البشر؛ فيقال رجلٌ رحيم، ورحمة الله لا مثيل لها فيوصف بأنه رحمن، ورحمته شاملة للخلق جميعاً دون استثناء، وتتّسع لكل شيء، وينعم بها كل حيّ، وقد دعت الملائكة الله -سبحانه وتعالى- بهذه الصفة بأن يغفر الله لمن تاب وآمن وعمل صالحاً، يقول تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ). والرحمة لغةً: اسمٌ يدلّ على الرقّة والعطف والرأفة، وتُطلق على الرزق والغيث، والمقصود برحمة الله عطفه وإحسانه. الرحمة اصطلاحاً: هي رقّةٌ في القلب تقتضي الإحسان وإيصال الخير إلى الغير، وإن كان هذا الإحسان في الظاهر شراً أو أذى، فالرحمة تقتضي تحقيق مصلحة الغير حتى وإن كان في ظاهر ذلك الإحسان ما يكرهه العبد ويبغضه في قلبه، ومثال ذلك الأب يطلب من ولده ما هو في الظاهر أنه مشقة وعناء للابن، وفي الحقيقة أن كل ما يطلبه الوالد من ولده من أجل مصلحته لاحقاً.
مظاهر رحمة الله بعباده في الدنيا
إنًّ رحمة الله ليست كرحمة المخلوقين، فالله -سبحانه وتعالى- خلَق الرحمة وأودع في الخلق جزءاً من رحمته، وأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءاً كما ذُكر في الحديث النبوي الشريف، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ)،[٨] ورحمة الله التي أنزلها موزّعةٌ على الإنس والجن والبهائم والمخلوقات جميعها.
1- خلْق الله الإنسان، وجعْله مكرّماً على غيره من المخلوقات، وحفّه بنعمه ورحمته بتيسير رزقه وهو جنين حتى يكبر ويخرج إلى الحياة الدنيا، ووضع الرحمة في قلب والدته حتى ترعاه وتحنّ عليه، وتسهيل أسباب الرزق لوالده لتحصيل حاجاته من الطعام والشراب، ومن رحمته بالإنسان أنْ خلقه في أحسن تقويمٍ وأفضل صورة.
2- خلق الله الليل والنهار، حيث يستعين الإنسان بالنهار على العمل والسعي في الأرض بما ينفعه، ويستعين بسكون الليل على النوم وأخذ الراحة لاستعادة نشاطه، قال تعالى: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
3- تسخير الأرض بما فيها لخدمة الإنسان ولتسهيل عيشه فيها.
4- من مظاهر رحمته أنه ينزل من السماء ماء، فالماء أساس الحياة لكل شيء في هذه الأرض، ولولاه ما عاشت النباتات وما عاش الإنسان ولا الحيوان، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ).[
5- إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ لهداية الناس إلى الحق، وليتبيّنوا الطريق المستقيم، وليحصلوا على ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، يقول تعالى في كتابه العزيز عن القرآن الكريم: (هـذا بَصائِرُ مِن رَبِّكُم وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِقَومٍ يُؤمِنونَ).
6- وضع الشريعة لاحتكام الناس إليها في الحياة الدنيا، حيث وضع الله -سبحانه وتعالى- المبادئ والأحكام والفرائض والأخلاق لاتّباعها والسير على أساسها، فتطبيق ما أمر الله به والابتعاد عما نهى عنه سبيلٌ إلى تحصيل منافع الخلق في الدنيا ودفع المضار عنهم، قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
7- الرخصة في الأحكام الشرعية؛ فقد رتّب الشرع أحكاماً لمختلف الأعمال والتكاليف ليقوم بها الإنسان في حالته الطبيعة، أما في حالات الاضطرار والمشقّة والحرج التي لا يتمكّن الإنسان فيها من القيام بالأعمال اللازمة عليه؛ فقد خفّف الله -سبحانه- عنه هذه الأحكام وسهّلها بما يُمكّنه من أدائها، وهو ما يسمى بالرخصة، ومن الأمثلة على الرخص: قصر الصلاة الرباعية في السفر، والفطر في رمضان للمريض والمسافر، وأكل الميتة عند الاضطرار لدفع الهلاك عن النفس، قال تعالى: (فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رَحيمٌ).
8- الإثابة على الصبر وعلى الأعمال الصالحة: فما من مؤمنٍ يصبر على مصيبة إلا وله ثوابٌ على صبره ويُحتسب أجره عند الله، قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، وكذلك المؤمن الذي أدّى الفرائض والتزم بالأوامر واجتنب النواهي فثوابه عند الله، قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
9- فتح باب التوبة للعباد، ومغفرة ذنوبهم وتقصيرهم إذا تابوا إليه سبحانه، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)،ونجاة المؤمنين من العذاب الأليم، قال تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
10- العقل؛ حيث خلق الله للإنسان العقل وجعله قادراً على التعلم، كما وعلّم الإنسان ما لم يعلم بفضله ورحمته، ورزقه القدرة على الفهم والإدراك والبيان والإفصاح عما يعلمه ويفهمه، قال تعالى: (الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، فالبيان الذي ميّز الله به الإنسان على غيره من المخلوقات من أجلّ وأعظم النعم التي تدل على رحمته -سبحانه وتعالى- بخلقه.
مظاهر رحمة الله تعالى في اليوم الآخر يوم القيامة:
1- إدخال المؤمنين الجنة يوم القيامة برحمة الله وفضله، لا بأعمالهم، قال عليه الصلاة والسلام: (لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ)، حيث تقصُر الأعمال مهما كثُرت عن أن يكون جزاؤها المقابل لها الخلود في جنة عرضها السماوات والأرض.
2- قبول الله شفاعة من يشاء من النبيّين والعلماء والملائكة والصالحين، ومن الشفاعة التي يقبلها -تعالى- شفاعة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الكبرى في الخلق لتعجيل الحساب، وشفاعته في أهل الذنوب من أمّته لإخراجهم من النار، وكذلك لمَن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لدخول الجنة.
3- إخراج من كان في قلبه ذرةً من الإيمان من النار، إذ يأمر الله ملائكته: (فيقولُ اذهبوا فلا تدَعوا في النَّارِ أحدًا في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ إيمانٌ إلَّا أخرجتُموهُ قال فلا يبقى إلَّا من لا خيرَ فيهِ) وهذا مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا).[
4- رحمة الله فيمن يبقى في النار من المسلمين، فبعد أن يشفع النبيّون والصالحون؛ ينادي الله في الخلق فيقول: (بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فيُخْرِجُ أقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، فيُلْقَوْنَ في نَهَرٍ بأَفْوَاهِ الجَنَّةِ).