-
المفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي
إنّ الخطابَ الدينيّ متعدّد المناهج والاتجاهات، وكلّ خطابٍ تختلف مضامينُه وأهدافه عن الخطاب الآخر، وكل خطابٍ يعتمد على مرجعية تختص به، فنجد على ساحة الدعوة الإسلامية خطابات دينية متعددة متناقضة، وكل منها اختزل الإسلام في دعوته معتقداتٍ ذات توجهاتٍ مغايرة لكل منها، لكن في المقابل نجد الخطاب الإلهي خطابًا واحدًا محدد المضمون متسق المعاني راقيًا في الحوار يستند للمنطق والعقل، ليتفق مع الفهم المخاطب وهو عقل الإنسان. خطاب ذو مرجعية واحدة، خطاب من خالق الناس لكل الناس، يدعو للرحمة والمحبة والتعاون والمساواة والعدل بين جميع البشر.
لقد اعتمد الخِطابُ الدّينيُّ على مَرجعياتٍ مُختلفةٍ ومَناهجَ متعددةٍ متناقضةٍ، مع الخطابِ الإلهي، مرجعياتٌ اختلفتْ في أسانيدِها. وارتبطتْ مَفاهيمُ أصحابها بالظروفِ السياسيةِ والاجتماعيةِ، حتى أصبحَ التشريعُ الإسلامي، مَصدرَ خِلافٍ واختلاف، نشأتْ بسببهِ نِزاعاتٌ، استمرتْ مئاتَ السّنين، وأفرزت منها في العالمِ الإسلامي طوائف عديدة وفرقًا كثيرة متصارعة متقاتلة، وعشرات المذاهب الدينية، لكل مذهب دعاته وأئمته وسببت دوامة فكرية بين المسلمين وحيرة مترددة في اختيار أي من المذاهب الذي يتحقق به سلامة إقامة الشعائر العبادية ومصداقية الأحكام التي يتبناها كل مذهب، وأي من المذاهب يتوافق مع المنهج الإلهي.
لقد أدّى هذا إلى صراعٍ مذهبيٍّ كارثيٍّ، فكلُّ طائفةٍ تعصّبت لمذهبٍ مُعيّن، وتفرّقَ المسلمونَ، فاتّبعتْ كلُّ طائفةٍ إمامًا ومعلمًا ومرشدًا، وأصبح كلُّ فريقٍ يَعتزُّ بإمامِه، ويُعلي من شأنِهِ ويُقدِّسُ آراءَهُ وفتاواه، ولا يَرضى بغيرهِ إمامًا، واعتمد الخِطابُ الدّينيُّ على أقوالٍ ورواياتٍ كاذبةٍ لتأجيج الخِلاف والصراع بين المسلمين.
ولقد أفرزت المرجعياتُ الطائفية المختلفة طوائفَ سياسيةً متعددةً، وتعصبًا أعمى أنتجَ مُتطرّفين اندفعوا دونَ وعيٍ أو ضميرٍ لاستباحةِ كلِّ القيمِ الإسلاميّةِ، فنصّبوا أنفسَهم أوصياء على الناسِ، فإذا بهم يُحاسبِونَ الناسَ على عقائِدهم ويتهمونهم بالكفر ويحكمون عليهم بإقامة حد الردة، بالقتلِ على كل من لا يتبع منهجهم وما يَدعون إليه من ثقافة متطرفة وسلوكيات همجية غارقة في الجهل والتخلف والتعصب الأعمى، وما أدّى لظهورِ تلكَ الفِرقِ المتناحرةِ، هو أنَّ قوى الشرِّ استطاعتْ التغلغلَ في الفِكرِ الإسلامي، بآلافِ المفُسرينَ ورُواةِ الحديثِ ومصطلحاتٍ متناقضةٍ، تبنتها كلُّ فرقة، وبذلك تشتتتْ الأمةُ الإسلاميّة حينما أصبحَ لكل فرقة منهم منهج مستقل يتعارضُ مع الفِرقةِ الأخرى. كانت تستهدف عزل القرآن وما جاء به من قيم الحرية والعدل والمساواة والسلام عن اتخاذه مرجعًا للتشريع في المجتمع الإسلامي يحقق لهم الخير والصلاح ويزيح عن كاهلهم المستبدين والظالمين، مما يهدد امتيازات المتسلطين على المجتمعات الإنسانية والمتسلقين للسلطة الدنيوية الذين يحتكرون الثروة ويستمتعون بالجاه ويحرمون الفقراء من أبسط حقوقهم الإنسانية، ويحتكرون العلوم الدينية لناس محددين دون غيرهم لتتحقق لهم سلطة دينية تمنحهم السمع والطاعة عند أتباعهم ليوظفوهم في خدمة مصالحهم الدنيوية.
إنَّ الرواياتِ والتفاسيرَ المسمومةَ، والعددَ الهائلَ من الإسرائيلياتِ، أصبحت حقائقَ مؤكدةً وعقائدَ ثابتةً لدى الكثيرِ من هؤلاءِ المحسوبين على الفقهاءِ من المسلمين عندما تَم تبنّي الروايات التي دأبتْ على دَفعِ المسلمينَ طوالَ أربعةَ عَشَرَ قرنًا للتقاتلِ والتناحرِ والنزاع، واستباحة الدّماءِ وقتلِ النفسِ البشريةِ التي حَرّمَ اللهُ إلا بالحقِّ. لقد تمَ إعلاءُ شأنِ الرواياتِ واعتبارها نُصوصًا مُقدسةً، حتى طَغَتْ على آياتِ القرآنِ الكريمِ، فأصبحت المصدرَ الرئيسي للخِطابِ الدينيِّ بِكُلِّ ما فيها من أكاذيب وأوهامٍ، وتناقضاتٍ تتعارضُ مع القرآنِ الكريم، فخلقتْ أسباب الكراهيةِ، وحرّضتْ على القَتْلِ والإساءةِ إلى الأنبياءِ والرُّسل، كَمَا تسببتْ في خلقِ مُجتمعاتٍ جاهلةٍ منعزلةٍ في وسطِ المجتمعاتِ الإسلامية، بحُجّةِ الحِرصِ على التميّز، وبأنّهم وَحدَهُم الفرقةُ الناجيةُ، فأصدروا أحكامًا بالتّكفيرِ على كلِّ مَنْ يخالفُهم الرأيَ، وحرّضوا على قَتلهِ وهَدرِ دمهِ.