“ولئن ساغت العلمانية في بلاد أوروبا لأن النصرانية مُحرَّفة، ولأن رجال الدين سيطروا على عقول الناس وقلوبهم، وحاربوا العلم والعلماء حربا لا هوادة فيها، ولأن النصرانية لا تتضمن نظاما متكاملا عن الحياة، فإنها لا تسوغ في مجتمعات المسلمين بحال، لأن الإسلام دين شامل متكامل يستغرق قضايا الدنيا والآخرة، ويلبي مطالب الروح والجسد، ونصوصه الكلية تندرج تحتها من أحكام الجزئيات ما لا يتناهى”.
الحديث أعلاه هو جزء مقتطع من إجابة مطولة لرجل الدين السلفي السوداني، عبد الحي يوسف، عن السؤالين التاليين اللذين سألهما أحد أصدقاء موقع “المشكاة” الإلكتروني: ما هو حكم الديمقراطية والعمل بها في الإسلام؟ ما هو حكم العلمانية في الإسلام؟
عدم وجود نظرية سياسية في الإسلام يؤكد أن شمولية الدين تعني اكتفائه بوضع القيم والمبادئ العامة
من المعلوم أن جميع تيارات الإسلام السياسي تبني دعوتها إلى ضرورة تطبيق الشريعة وأسلمة الدولة وعودة الخلافة على ادعاء يقول إن الإسلام دين شامل لكل نواحي الحياة وبالتالي فإنه من المستحيل فصله عن الدولة مثلما حدث في الديانة المسيحية التي يقولون إنها تختلف اختلافا جذريا عن الإسلام.
وقد شرح الدكتور يوسف القرضاوي فكرة الشمول هذه في كتابه “التربية السياسية عند الإمام حسن البنا” بالقول إنها تعني: “أن الاسلام يشمل الحياة كلها بتوجيهه وتشريعه: رأسيا منذ يولد الإنسان حتى يتوفاه الله. بل من قبل أن يولد وبعد أن يموت حيث هناك أحكام شرعية تتعلق بالجنين وأحكام تتعلق بالإنسان بعد موته. وأفقيا، حيث يوجه الإسلام المسلم في حياته الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية من أدب الاستنجاء إلى إمامة الحكم وعلاقات السلم والحرب”.
وعند سيد قطب أن “الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة، وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة، ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة”، وهذا يعني أن الإسلام يشمل الحياة الإنسانية برمتها ابتداء من السياسة إلى شؤون الحياة الفردية.
بهذا المعنى فإن الدين لدى تيارات الإسلام السياسي ودعاة تطبيق الشريعة ـ وكما يقول صلاح سالم ـ يكون شاملا فقط عندما يتحدث في كل شيء ولا يسكت عن أي شيء، وعندما يطرح كل الأسئلة ويقدم جميع الإجابات، أو كما قال عبد الحي يوسف في إجابته أعلاه عندما “يستغرق قضايا الدنيا والآخرة”.
ولكن على العكس التام مما يدعيه هؤلاء فإن شمولية الدين واستمرار فاعليته تكمن في عموميته وتساميه عن الوقائع المتجددة وعدم تدخله في تفاصيل الحياة المتغيرة، فهو يطرح الإجابات على الأسئلة الوجودية الأساسية حول الحياة والموت، خلق الكون ومسيره ومآله الأخير، مصير الإنسان والقيم التي يجب أن تحكم حياته.
إن اكتفاء الدين بطرح المبادئ والتصورات والقيم الكبرى وامتناعه عن الاستغراق في الشؤون التفصيلية المرتبطة بكيفية إنزالها على واقع الناس في الحياة هو الذي يؤكد على شموليته، وهذا هو الأمر الذي يثبته النص الديني (القرآن) والتجربة التاريخية الإسلامية.
في مسألة السياسة والحكم، يؤكد القرآن على قيم عامة أساسية مثل الحرية والعدل والشورى، ولكنه يصمت عن كيفية تطبيقها في الواقع الحياتي المتغير، ولا يضع تفصيلات محددة يجب إتباعها في جميع الأحوال والأوقات، وكذلك فعل الرسول الكريم في واقع الممارسة التاريخية، فهو لم يترك لأصحابه دليلا تفصيليا لكيفية تسيير شؤون المسلمين بعد رحيله، وكذلك امتنع عن اختيار من يخلفه في إدارة أمرهم.
قد جاء اختيار أبو بكر الصديق في السقيفة بأسلوب غلب عليه النزاع بين المهاجرين والأنصار من جهة وبين آل بيت الرسول وبعض كبار الصحابة من جهة أخرى. فالأنصار الذين يئسوا من تولية سعد بن عبادة بعد أن رأوا تشبث عمر وأبي بكر قالوا “منا أمير ومنكم أمير” ليجيبهم الصديق “منا الأمراء ومنكم الوزراء”.
وعند وفاته، لم يترك أبو بكر شأن تولية من يخلفه إلى عامة المسلمين أو حتى أهل الحل والعقد، بل أوصى لعمر بن الخطاب بكتاب مغلق بايع عليه المسلمين قبيل وفاته دون أن يعلموا ما بداخله.
وعندما دنا عمر من ملاقاة ربه لم يتبع أسلوب السقيفة أو أسلوب الصديِّق في الاختيار، بل قصر الاختيار على ستة أسماء “علي وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد”، يختارون من بينهم من سيتولى الأمر.
القرآن والرسول أحجما عن وضع أسلوب مُفصَّل أو وسيلة معينة لاختيار الحاكم
أما علي بن أبي طالب فقد تمت توليته تحت ظلال السيوف وعلى أسنة الرماح بموافقة بعض الأمصار ورفض البعض الآخر، عقب فتنة اغتيال ذي النورين. وبعد اغتيال علي انفرد معاوية بن أبي سفيان بحكم المسلمين، ومع توليه إمارة المسلمين تحول الحكم إلى مُلك عضوض واختفت حتى اليوم كل أساليب الاختيار عدا أسلوبي الغلبة والوراثة.
وإذا كان القرآن والرسول قد أحجما عن وضع أسلوب مُفصَّل أو وسيلة معينة لاختيار الحاكم، فإنهما كذلك لم يضعا نظاما معينا للحكم يُحِّدد سلطات ذلك الحاكم وصلاحياته، وآلية اتخاذ القرار في الدولة، والفترة الزمنية التي يبقى فيها الحاكم على سُدَّة الحكم، وغير ذلك من الأمور التفصيلية التي يجب توافرها في أنظمة الحكم.
يقول قاسم أمين في إطار حديثه عن الخلافة الإسلامية: “أما من جهة النظامات السياسية فإننا مهما دققنا البحث في التاريخ الإسلامي لا نجد عند أهل تلك العصور ما يستحق أن يُسمى نظاما، فإن شكل حكومتهم كان عبارة عن خليفة أو سلطان غير مُقيد، يحكم موظفين غير مُقيدين… ربما يُقال إن هذا الخليفة أو السلطان يُولى بعد أن يُبايعه أفراد الأمة، وأن هذا يدل على أن سلطته مستمدة من الشعب صاحب الأمر. ونحن لا ننكر هذا، ولكن هذه السلطة التي لا يتمتع بها الشعب إلا بضع دقائق هي سلطة لقيطة، أما في الحقيقة فإن السلطان هو وحده صاحب الأمر”.
إن عدم وجود نظرية سياسية في الإسلام يؤكد ما ذهبنا إليه من أن شمولية الدين تعني اكتفاءه بوضع القيم والمبادئ العامة التي يجب أن تلتزم بها السلطة السياسية في المجتمع دون الخوض في تفاصيل الأشكال والآليات التي تتخذها السلطة في إنزال تلك المبادئ إلى الواقع التطبيقي. إنها “شمولية وجودية” وليست “شمولية سياسية” بحسب تعبير صلاح سالم.
لم يترك الرسول لأصحابه دليلا تفصيليا لكيفية تسيير شؤون المسلمين بعد رحيله
ولعل من أبلغ العبارات الدالة على شمولية الإسلام الوجودية وليست السياسية هي تلك المنسوبة للفقيه ابن القيم: “أينما يكون العدل فثم شرع الله”. هذه المقولة الدالة تبين أن أحد المقاصد الكلية للدين هو تحقيق العدل وبالتالي فإنه ليس مهما نوع النظام السياسي (الوسيلة) الذي يتم عن طريقه الوصول لتلك الغاية، بل إن تنزيلها إلى أرض الواقع والممارسة وحده كفيل بإعطائها الصفة الإسلامية.
يظن دعاة أسلمة الدولة خطأ أن غياب القيم الوجودية الكبرى من شاكلة الشورى والعدل والحرية عن العالم الإسلامي إنما يرجع لغياب الدولة الإسلامية “الخلافة”، وأن عودة الأخيرة سيضمن إنزال تلك القيم على أرض الواقع ضربة لازب، ويفوت عليهم أن تلك القيم لم تسد طوال تاريخ الخلافة إلا في فترات استثنائية قصيرة جدا، وأن غيابها لم يكن بسبب زوال الخلافة بل كان بسبب الاستبداد الذي كان سمة تلك الفترة من تاريخ البشرية جمعاء.
وبالتالي فإن أي محاولة لأسلمة الدولة أو استعادة الخلافة لن تجدي في بسط القيم الكبرى التي ينادي بها الإسلام طالما أن توجهات تلك الدولة ظلت قائمة على أسس الاستبداد الذي كان سائدا قبل ظهور الدولة الحديثة، وطالما أنها ترفض نظام الحكم الديمقراطي الذي لا تكتمل أركانه إلا بالعلمانية السياسية.