راهب أم دجال؟ من هو راسبوتين عَلَم روسيا الآثم؟
راسبوتين الآثم الناصح، حياته كلها انقسمت بين محبٍ وباغض، كلما زادت شعبيته وعرفه الشعب وآمنوا به، كلما زاد الحسب المعاكس الباغض له ولخداعه ولتحكمه في الحياة السياسية، رغم أنه لا يملك من الأمر شيئًا، وولد فقيرًا معدمًا..
من هو راسبوتين؟
هو غريغوري راسبوتين، المولود في 22 يناير 1869 في قرية بوكروفسكوي في سيبيريا، روسيا، وسط عائلة بسيطة وفقيرة من المزارعين، يُقال إن والده بعثه إلى الدير ليتعلم أمور الرهبنة ويصبح شخصًا صالحًا وذا أهمية ليحترمه المجتمع ويعد له العدة، وبالفعل انضم راسبوتين إلى الدير الأرثوذكسي في سن مبكرة وقضى سنوات في الصوم والصلاة والتأمل.
وفي يومٍ مشؤوم كان راسبوتين على وشك الموت غرقًا مع أخيه أثناء سباحتهما بإحدى البحيرات المتجمدة، إلا أنه استطاع النجاة بعد أن اجتاز فترة من الغيبوبة، بينما غرق أخوه، ليظل بعدها أسير رؤًى وخيالاتٍ أرخت عنانها لتفكيره الضارب في جذور الشر، إذا بات متيقنًا أنه يملك قوى روحية خارقة يمكنها فعل أي شيء.
الولع بالشراب والسرقة
ببلوغ راسبوتين الثلاثين، كان زوجًا وأبًا لأربعة أطفال، إلا أنه لم ينجح في حياته الزوجية لولعه بالشراب وسرقة الجياد فكان هذا دائما ما يتناقض مع أصول الحياة العائلية التقليدية، كان دائم البحث المتع واللذات بشبابه ولم يكن متحملًا للمسؤولية، فأحيانًا يعمل في جر عربات القش ليعول زوجته وأولاده، وأحيانًا ينسى أنه زوج وأبٌ من الأساس ويلهث وراء خدمة أهوائه الشخصية فيسرق الجياد ليبيعها في الأسواق كي ينفق الأموال في السكر، والعربدة، ومعاشرة النساء.
وكان يسحر النساء رغم قبحه وقبح عاداته، حيث ذُكر أنه لم يكن يستحم بالشهور، وكان رث المظهر، وعلى الرغم من كل ذلك مكنته نظراته القوية الثاقبة، وتمكنه من السحر والتنويم المغناطيسي في أسر قلوب فتيات القرى ليسقطن فريسة لرغباته الآثمة المريضة.
لكن لا تسلم الجرة كل مرة، ففي إحدى المرات أثناء سرقته لأحد الأحصنة تم اتهامه ولكنه لاذ بالفرار واحتمى بأحد الأديرة “كازان” على نهر الفولجا، وكانت تلك نقطة التحول في حياته وما بين ليلة وضحاها، أصبح الفاجر سارق الخيول ومدمن الخمر، راهبا قديسا محاطا بجماعة كبيرة من الأتباع الذين انبهروا بقواه الخارقة في شفاء الأمراض.
ومع تأثره بتجاربه الروحانية رحل راسبوتين عن قريته وأصبح مسافرًا جوالًا في أنحاء روسيا وخارجها، وخلال هذه الرحلات لم يغتسل أو يبدل ملابسة لفترات بلغت عدة أشهر وكان يرتدي قيودا حديدية زادت من المعاناة، وقد شملت هذه الرحلات الدينية الشاقة رحلة إلى جبل آثوس في اليونان وساعدته على اكتساب أنصار ذوي نفوذ مثل «هيرموجن، أسقف ساراتوي».
ساحرٌ أم دجال؟
وُعرف راسبوتين بسحره وقدرته الروحية، والتي زُعم أنها تمكنت من شفاء المرضى وقراءة العقول، وقد استخدم راسبوتين هذه القدرات لكسب تأييد وثقة العائلة القيصرية. وساهم في ذلك أن الطبقة الأرستقراطية كانت مولعة بمسائل السحر والتنجيم وكانت عمليات تحضير الأرواح أمرًا مألوفًا.
حين التقى القيصر “نيقولا الثاني” راسبوتين، سجل اللقاء في مذكراته، في 14 نوفمبر عام 1905م قائلًا: «تعرفنا على غريغوري، رجل الرب، من أبراشية توبولساك»، وبدهائه وذيوع أمره في المملكة ترك راسبوتين انطباعًا عميقًا لدى الإمبراطورة ألكسندرا فيوديوروفونا، إذ اقتنعت تمامًا بقدراته حين استطاع بإعجاز أن يخفف من المعاناة والنزيف الذي أصاب أليكسيس نيكوليافبتش، وريث عرش روسيا المريض بسيلان الدم الهيموفيليا، والذي قد ورثه عن أمه حفيدة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، المرض الذي عانى منه ولي العهد ومات به من قبل أخ الملكة واثنان من أبناء الاخوة وخالها، يبدأ بنزيف تحت الجلد ثم يظهر ورم يتصلب يتبعه شلل مصحوبا بآلام شديدة، وقد اتجهت إليه بعد عجز الأطباء عن مداواته، فقد توجهت الإمبراطورة الكسندرا إلى رجال الدين لعلهم يجدوا دواءً لشفاء نجلها، وهنا ظهر راسبوتين في حياة العائلة الملكية راهبا ومرشدا دينيًا مقدسًا ذو دراية بأحكام التنجيم وقدرة على تحضير الأرواح وافتعال الظواهر الخارقة للطبيعة، وزاد من مكانته ما أظهره من قدرة على وقف نزيف الأمير وتماثله للشفاء أكثر من مرة. ولم يمضِ وقت طويل منذ أثبت راسبوتين قوته الخارقة للأكسندرا حتى أصبح مستشارها الشخصي المؤتمن على أسرارها، يزورها في القصر في موعد أسبوعي محدد.
وتقول إحدى النظريات المتعلقة بقدرة راسبوتين على وقف النزيف الذي أصيب به أليكسيس، ابن القيصر، بأنه استخدم التنويم المغناطيسي لإبطاء النبض، ومن ثم تقليل القوة التي تدفع الدم إلى الدوران في جسده.
جشع السلطة
بدأ راسبوتين في الفوز بثقة تسار نيكولاي الثاني وزوجته القيصرية ألكسندرا، إلا أن أصبح مستشارًا للعائلة القيصرية وكان له تأثير كبير في صنع القرارات السياسية وتعيين المسؤولين.
لكن تأثيره السياسي لم يكن خاليًا من الانتقادات والشكوك، حيث اعتبره البعض وسيلة للتلاعب بالحكم وتعزيز نفوذه الشخصي.
ومما زاد من وطأة هذا غياب القيصر، فاستطاع راسبوتين اكتساب المزيد والمزيد من القوى السياسية، وساهم في تعيين وطرد الوزراء، والسيطرة على قرارات حكومة روسيا داخليًا، لأنَّ القيصر كان منشغلاً بأمور الحرب. وتم طرد الأشخاص المعارضين لراسبوتين؛ وبدأ تقريب الموالين له وتعيينهم في أخطر المناصب. وسرت الشائعات الكاذبة أن راسبوتين يخطط مع زوجة القيصر لعقد اتفاق سلام مع ألمانيا بشكل سري ومنفصل، وبنفوذه الطاغي على قرارات القيصر السياسية زاد اللوم الموجه للراهب السيبيري على المشاكل التي عانت منها البلاد حتى أن مدينة سان بطرسبرغ أصبحت تعرف باسم «مدينة إبليس».
ماذا قال الروس في “راسبوتين”
رأي المشاهير في راسبوتين يختلف بين الأشخاص ويمتد من الإعجاب إلى الاستياء، وفيما يلي بعض آراء المشاهير حول راسبوتين:
فلاديمير لينين: الزعيم الشيوعي الروسي لينين كان ينظر إلى راسبوتين بشكل سلبي وكان يعتبره رمزًا للفساد والتخلف والتأثير السلبي على الحكم القيصري.
ألكسندر كيرنسكي: الكاتب والشاعر الروسي كيرنسكي كتب قصيدة ينتقد فيها راسبوتين ويصفه بأنه “الشيطان الرهيب” ويتهمه بالتآمر ضد روسيا والشعب.
فيودور شاليابين: الرسام الروسي شاليابين قام برسم لوحة ساخرة تصور راسبوتين وهو يبتلع روسيا بأكملها، وذلك للتعبير عن استياءه من تأثير راسبوتين على السياسة والشؤون العامة.
ألكسندر بلوك: الشاعر الروسي بلوك كان يرى راسبوتين على أنه رمز للروحانية والقدرات الخارقة، وكتب قصائد تمجد فيها راسبوتين وتقدمه كشخصية مؤثرة ومحبوبة.
نيقولاي روزانوف: السياسي الروسي روزانوف كان يعارض راسبوتين وينتقده بشدة، ووصفه بأنه “الجاهل الخطير” واتهمه بالتدخل في السياسة والشؤون العامة بطرق غير مقبولة.
هذه بعض الآراء المشهورة حول راسبوتين، وتوضح التباين الكبير في الرؤى والآراء حول شخصيته وتأثيره على الساحة السياسية في روسيا.
وفي النهاية راسبوتين، الراهب الغامض والمستشار المؤثر في القصر القيصري، يبقى لغزًا حتى يومنا هذا، فهو يمزج بين التأثير السياسي والشكوك والاتهامات.
بينما يراه البعض على أنه رمز للفساد والتآمر، يراه البعض الآخر على أنه رمز للروحانية والقدرات الخارقة.
قد يبقى الحقيقة مجهولة تمامًا، مع معرفتنا الحالية، لكن راسبوتين سيظل شخصية تستحق الدراسة والاهتمام في تاريخ روسيا المضطرب.
وكان شخصية محيرة ومثيرة للجدل، رغم قدراته الروحية الاستثنائية وتأثيره على العائلة القيصرية، تعرض للعديد من الانتقادات والشكوك بسبب تصرفاته واتهاماته بالفساد.
أنتهت حياته بمقتله بطريقة وحشية، مما أنهى فصلاً مثيرًا في تاريخ روسيا، تبقى شخصية راسبوتين محل دراسة وتحليل لفهم تأثيره ودوره في الأحداث التاريخية التي شهدتها البلاد.
موته
وفي ليلة السادس عشر من ديسمبر عام 1916م دعا “يوسوبوف” راسبوتين إلى قصر مويكا بحجة أن “إيرينا” التي يشاع عنها أنها أجمل امرأة في سان بطرسبرغ تريد مقابلته، ولشهوته التي أعمت قلبه وبصيرته، قبل راسبوتين الدعوة، وذهب إلى غرفة جانبية حيث كان بانتظاره مائدة عامرة بأنواع الحلويات والفواكه، وكانت قوالب الكعك عامرة بمادة سيانيد البوتاسيوم، وإذا فشلت المادة بقتله، فإن السم الموجود في الكؤوس سيتمّ المهمة.
بينما كان راسبوتين ينتظر ظهورها قدم رجل لراسبوتين قطعتين من الكعك وخمر مدسوس بهما سم مميت، وشرب راسبوتين كأسين من الخمر المسمومة، ولم يظهر عليه أي أثر للتسمّم، بل إنّه شعر بالمزيد من الظمأ والتشوّق لرؤية الأميرة.
مضى الوقت ولم يحدث شيء، فأصيب المتآمر بالهلع لما بدا من حصانة راسبوتين ضد السم، فصعد الأمير إلى الطابق العلوي ليخبر بقية المتآمرين الذين توتّرت أعصابهم.
وعندما دقّت الساعة 2,30 ليلًا، لم يعد بإمكان الأمير مواصلة الادعاء بأنَّ زوجته لا تزال تتولى العناية بضيوف آخرين، لذلك استأذن من الراهب قليلاً وصعد إلى الطابق العلوي بدعوى أنه سيستدعي إيرينا حالاً.
لم يستطع يوسوبوف السيطرة على نفسه، واتفق الأمير مع المتآمرين على إطلاق النار على الراهب، وهكذا نزل وهو يخفي مسدساً. وعندما انضم إلى الراهب طلب مزيداً من الخمر، وبعد أن شربها، اقترح الخروج لزيارة الغجر لقضاء وقت طيّب..
من الخلف، نزع الأمير مسدسه، وأطلق النيران على راسبوتين الذي التفت فاستقرت الرصاصة في صدره. اتسعت عينا الراهب بشكل مرعب.. وفتح فمه كما لو كان سيتكلم، سمع المتآمرين صوت الرصاص، واندفعوا إلى الغرفة، وكانت الساعة 3 صباحاً، وهناك شاهدوا راسبوتين متمدداً دون حراك… والدم ينزف فوق السجادة. وهكذا سطرت آخر السطور في قصة راسبوتين الراهب الآثم.