إنّ كمال تقوى الله -سبحانه- يكون بإتيان طاعته وترك نواهيه، في جميع الحالات والظروف التي يمرّ فيها الإنسان، فإذا كانت تقوى الله في العلن أمام الناس سهلةً قريبة المنال، فإنّها قد تكون أصعب حين يختلي المسلم بنفسه، لا يراقبه إلّا الله وحده، حينها تظهر حقيقة تقوى الله ومراقبته في قلب المرء، وقال الشافعي -رحمه الله- واصفاً ذلك: _أعزّ الأشياء ثلاثة: الجود من قلّة، والورع في خلوة، وكلمة الحقّ عند من يُرجى ويُخاف)، فوصف الورع وهو واحدٌ من صفات المتقين بأنّه من أعزّ الأشياء الصعبة المنال، أو تكاد تكون مفقودة بين الناس إذا كان المرء خالياً لوحده، ولقد امتدح الله -سبحانه- أهل مراقبته والإيمان به في الخلوات، وخصّهم بالذكر في القرآن الكريم أكثر من مرّةٍ، حيث قال في أحد المواضع: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)،[٨] وفي المقابل ذمّ من يستخفي من الناس خجلاً أن يرتكب الحرام أمامهم، ثمّ يتجرأ على الله في خلوته، فيفعل ما لا يُرضيه، فقال: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)
ورد عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه كان يسأل الله -تعالى- أن يرزقه تقواه في السرّ والعلن، حيث كان يقول في دعائه: (وأسألُكَ خشيتَكَ في الغيبِ والشَّهادةِ)،[١٢] وبهذا أوصى الصحابة رضي الله عنهم، ثمّ عمّم ذلك على جميع المسلمين، فقال: (اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ)،[١٣] وحتى يجتهد المسلم في تقوى الله -سبحانه- في السرّ والعلانية فقد أخبره الله -تعالى- أنّه مطّلع عليه في كلّ حينٍ وكلّ حالٍ، لعلّ ذلك يعينه على دوام مراقبته أينما حلّ وارتحل، حيث قال: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)،[١٤] فإذا تيقّن المسلم مراقبة الله سبحانه، وقُربه منه طول الوقت أعانه ذلك على التزام الأوامر، والانتهاء عن النواهي في أي حالٍ، حتى يبلغ درجة المحسنين، وهم الذين يعبدون الله كأنّهم يرونه، وهي أعظم الدرجات التي قد يصلها المسلم في قُربه من الله تعالى، قال الله عزّ وجلّ: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)