السطو على اللوحات الفنية… قصة الأرواح المهدورة
رجال يرتدون زي الشرطة ويقتحمون متحفاً زاعمين أنهم جاءوا استجابة لمكالمة طوارئ ليقوموا بسرقة مجموعة من اللوحات النادرة قدرت قيمتها بـ500 مليون دولار ليتضح في النهاية أنهم لصوص متنكرون في زي الشرطة.
القصة السابقة ليست مشهداً سينمائياً، بل واقعة حقيقية حدثت عام 1990 بمتحف حديقة إيزابيلا ستيوارت في واحدة من أغرب وأسهل حوادث سرقة اللوحات في العالم، وتضمنت المجموعة المسروقة لوحات نادرة من بينها “العاصفة على بحيرة طبريا” لرامبرانت، وتقدر قيمتها حالياً بـ200 مليون دولار، ومجموعة أخرى من لوحات مونيه وفيرمير.
رصدت الولايات المتحدة في البداية خمسة ملايين دولار مكافأة لمن يدل على اللوحات، قبل رفعها لاحقاً إلى عشرة ملايين، وحتى يومنا هذا، وبعد مرور ما يزيد على 30 عاماً، لم يتم العثور على اللوحات المفقودة.
قصص كثيرة مشابهة جرت وقائعها على مر السنوات لسرقة لوحات فنانين عالميين في أرجاء شتى من العالم، فالاتجار غير المشروع بالتراث الفني من أكثر الجرائم ربحاً طبقاً لتقرير أصدرته الأمم المتحدة، إذ يحتل المركز الرابع في القائمة بعد المخدرات وغسل الأموال وتجارة السلاح، فبعض القطع الفنية تقدر قيمتها بملايين الدولارات.
أبرز الجرائم
أعمال شهيرة عدة تمت سرقتها، بعضها أمكن استعادته مرة أخرى فيما لا يزال البعض الآخر في عداد المفقودات، ومن بين أشهر اللوحات المستعادة “الموناليزا” للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي التي تمت سرقتها عام 1911 من متحف اللوفر بطريقة ساذجة، إذ انتزعها أحد اللصوص من الإطار وأخفاها تحت معطفه وهروب بها من المتحف، لتبقي اللوحة بحوزته عامين كاملين إلى أن تم القبض عليه في النهاية.
وفي متحف أشموليان بأكسفورد في بريطانيا ليلة رأس السنة عام 1999، استغل اللصوص احتفالات الناس بالألفية الجديدة، وسرقوا لوحة “Auvers sur oise” للفنان الفرنسي بول سيزان، حيث صعدوا إلى سطح المتحف باستخدام السقالات عبر مبنى مجاور، وأطلقوا قنابل الدخان للتعتيم على الصور في كاميرات المراقبة، وقدرت قيمة اللوحة بنحو 4.5 مليون دولار.
وفي أمستردام، شهد متحف فان غوغ واقعة سرقة عام 1991، حيث تمكن اللصوص من المبيت في المتحف وإبطال أجهزة الإنذار ليسرقوا 20 لوحة بقيمة 200 مليون دولار، من بينها لوحته الشهيرة “آكلو البطاطا” التي تعد من العلامات المميزة في تاريخه، ومن المفارقات الغريبة أنه تم العثور بعدها على جميع اللوحات في سيارة تركها اللصوص في الليلة ذاتها وفروا هاربين، ومن لوحات فان غوغ المسروقة التي لم يستدل عليها حتى الآن “زهرة الخشخاش” التي سرقت من متحف محمد محمود خليل وحرمه في القاهرة عام 2010، وتقدر قيمتها بـ50 مليون دولار.
ومن بين أغرب الوقائع سرقة المتحف الوطني للفنون الجميلة بباراغواي عام 2002 في واقعة أشبه بالأفلام، حيث حفر اللصوص نفقاً طوله 80 قدماً تحت أحد المتاجر، وصولاً إلى المتحف، وسرقوا مجموعة من اللوحات الفنية ذات القيمة الكبيرة، ولم يتم الاستدلال على هذه الأعمال حتى الآن.
وفي مدينة أوسلو عام 2004 تمت سرقة لوحة إدوارد مونش الشهيرة “الصرخة” من المتحف الوطني في توقيت الاحتفالات الافتتاحية لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 1994، إذ تم اقتحام المتحف وقطع السلك الذي يحمل اللوحة على الحائط والهروب بها مع ترك ملاحظة تقول “شكراً على الأمن السيئ”، واستمر البحث عن اللوحة قرابة عامين ليتم العثور عليها في فندق شمال أوسلو عام 1996.
وفى 2020 أثناء الإغلاق الذي صاحب جائحة كورونا سرقت لوحة للفنان فان غوغ من متحف “The Singer Laren”، وأوضح بيان الشرطة أن المتسللين دخلوا المبنى عن طريق اختراق باب زجاجي.
الصدفة تقود لاستعادة اللوحات
حالات كثيرة يكون للصدفة دور في العثور على واحدة من اللوحات المفقودة، إذ عثر على عمل كان مفقوداً لسنوات طويلة للفنان الإيطالي فيليبينو ليبي تحت اسم “مادونا والطفل” معلقاً فوق سرير عجوز تبلغ من العمر 90 سنة في منطقة شمال لندن، حيث ورثته عن والدها عقوداً طويلة وتم التعرف على اللوحة من قبل مُشترٍ للمنزل الذي تقطنه السيدة.
وفي واقعة أخرى، عثر رجل في ألمانيا على لوحات زيتية قيمة تعود للقرن السابع عشر في حاوية قمامة بمدينة أورينباخ الألمانية للفنان الإيطالى بيترو بيلوتي، والهولندي صموئيل فان هوغستراتن.
ومن بين المصادفات التي قادت للعثور على لوحات مسروقة ما حدث أخيراً في مصر من العثور على لوحة مفقودة منذ 50 عاماً للفنان التشكيلي عبد الهادي الجزار تحت اسم “فنارات البحر الأحمر”، فبالمصادفة تعرف عليها أحد المهتمين بالفنون أثناء جلوسه بأحد مقاهي القاهرة، حيث كانت اللوحة معلقة على جداره، فعرض على مالك المقهى شراءها بما يعادل 110 آلاف دولار، ليثير الرقم ذهول صاحبها الذي بدأ في البحث عن أصل اللوحة وتاريخها ليكتشف أنها مسروقة من وزارة الثقافة المصرية ويقرر إعادتها للوزارة التي ستقوم بعرضها في متحف الفن الحديث.
القصة السابقة أثارت جدلاً كبيراً في الأوساط الفنية والثقافية بمصر أخيراً حول كيفية الحفاظ على اللوحات التي تكون في عهدة المتاحف أو الوزارات أو حتى أشخاص اشتروها من أصحابها بشكل قانوني، ما دفع نقابة التشكيليين المصريين إلى تبني مبادرة لتوثيق الأعمال الفنية للتشكيلين. ودعت كل من يملك لوحة أصلية لا يعرف تاريخها، أو من يريد أن يوثق لوحة بعينها، سواء من الجمهور أو الفنانين أنفسهم، إلى التوجه لمقر النقابة لفحص اللوحة وتوثيقها وإصدار شهادة توثيق معتمدة.
عن هذه المبادرة تقول نقيبة التشكيليين المصريين، صفية القباني لـ”اندبندنت عربية”، “أطلقناها بعد تسلم لوحة عبد الهادي الجزار، وهدفها الحفاظ على تراثنا الثقافي والفني، فهذه الأعمال ملك للإنسانية كلها، ومن خلال المبادرة سيتم فحص اللوحات والتحقق من تاريخها وكونها عملاً أصلياً من عدمه وحتى ترميمها في حال احتاجت إلى ذلك”.
وتضيف، “التوثيق قد يقودنا للعثور على لوحات أخرى مفقودة أو منع غيرها من الفقد بعد أن يتم توثيقها والتعرف على مكان وجودها، كما سيساعد أيضاً على تفعيل قانون التتبع الذي صدر منذ سنوات، وهو يعطي الحق للفنان في الحصول على نسبة من بيعه أو إعادة بيعه للوحة حتى 50 عاماً من عمر العمل، وهو حق أصيل للمبدع وللملكية الفكرية، بخاصة مع الارتفاع الكبير للأسعار مع الزمن”.
التكنولوجيا وتتبع اللوحات
كان للتكنولوجيا الحديثة أيضاً دور في تعقب اللوحات، ففي واقعة حدثت من سنوات قريبة استطاعت عائلة بريطانية استرجاع لوحة زيتية تعود للقرن الثامن عشر سرقت منذ أكثر من 50 عاماً ضمن مجموعة من ست لوحات داخل متحف فالنس هاوس شرق لندن، وبمساعدة من تطبيق “Google Alerts” قام أحفاد الرسام الإنجليزي تشارلز فانشاو بإعداد تنبيه على Google للمساعدة في تتبع أي ظهور للوحة المسروقة، وفي يناير 2019 حصلت العائلة على تنبيه بأن أحد أعمال فانشاو وهو لوحة زيتية تسمى “الفيكونت الرابع” يرجع تاريخها إلى نحو عام 1750 تعرض في مزاد علني بفيلادلفيا بالولايات المتحدة ليتم بذل جهد دولي لاستعادة اللوحة المسروقة كلل بالنجاح.
لم تقتصر عمليات سرقة التراث الإنساني على الحوادث الفردية، بل صاحبها على مدار سنوات عمليات نهب منظم لهذه الكنوز الفنية كان أشهرها على الإطلاق ما حدث خلال حقبة الحرب العالمية الثانية، فقد ذكر المؤرخون أنه في خلال الفترة من 1941 وحتى 1944 تمت سرقة نحو 30 ألف قطعة فنية وترحيل أكثر من 20 حاوية من باريس وحدها إلى ألمانيا في أضخم عملية تهريب فنية حدثت على الإطلاق.
تقول الكاتبة والناقدة التشكيلية رشا عدلي لـ”اندبندنت عربية”، “عشق هتلر الفن التشكيلي وكان يهوي اقتناء اللوحات، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إنه رسم بنفسه وأقام معرضاً للوحاته الفنية، لكنه لم يلقَ النجاح، ومع ذلك قرر الاستمرار في هذا الشغف ببناء متحف للفن الأوروبي، ورصد عدداً من اللوحات التي يجب أن يضمها إليه، وكانت مبعثرة في عدد من المتاحف العالمية، وبناءً عليه نظمت عمليات نهب واسعة لهذه المتاحف إبان الحرب العالمية الثانية لجلب القطع الفنية التي يريدها هتلر، سواء أكانت منحوتات أو لوحات، ووضع بعضها في المتحف الذي تم بناؤه، والبعض الآخر صادره الضباط النازيين وكثير منها فقد في أجواء الحرب”.
وتضيف رشا أن من أشهر الأعمال التي تمت سرقتها خلال فترة الحرب العالمية الثانية لوحة “القديسة غوستا وروفينا” للفنان الإسباني بارثولومي، ولوحتي فان جوخ “رسام في الطريق إلى تاراسكون” و”بورتريه الدكتور غاشيه”، و”بوتريه أديل بلوش باور” للنمساوي غوستاف كليمت، ولوحة “صبي بسترة حمراء” لبول سيزان.
تتبع الأعمال المسروقة
قدرت الأعمال المسروقة التي تم نهبها خلال الحرب العالمية الثانية بنحو 750 ألف عمل، كثير منها فقد أو دمر، وبعضها تمت استعادته بعد عشرات السنوات، وجزء منها لا يزال حتى الآن مفقوداً ولا أحد يعرف مصيره، وبعضها عثر عليه على سبيل المصادفة، فمثلاً عثر بين نفايات شقة في ميونيخ بجنوب ألمانيا على 1400 عمل فني صادرها النازيون، من بينها أعمال لماتيس ورينوار وشاغال.
وتتابع رشا، “كانت أغلب الأعمال المسروقة تتبع المدرسة الانطباعية، فقد تزامنت الحرب مع ازدهار هذه المدرسة التشكيلية الجديدة، ومن روادها سيزان وماتيس ومونيه، وكان تجار اللوحات الفنية أغلبهم من اليهود فأصبحت منازل أثريائهم تزين بلوحات هؤلاء الفنانين، حتى قامت الحرب واقتيد اليهود للاعتقالات والسجن ومعسكرات النازية، وجرى الاستيلاء على ممتلكاتهم ومن بينها تلك اللوحات، إلا أن البعض نجح في حفظ بعض مقتنياته بالبنوك السويسرية، وكذا فعل بعض ضباط النازية الذين حرصوا على إخفاء غنائمهم، وبعد انتهاء الحرب ظل كثير من هذه الخزائن مغلق على أسراره لأن بعض العائلات تمت تصفيتها بأكملها، أو هربت مع عدم علم الورثة بأمر هذه الحسابات السرية”.
وتضيف، “استمر الأمر كما هو حتى عام 1998 عندما انعقد مؤتمر واشنطن الخاص بتتبع الأعمال الفنية التي صادرها النازيون، والذي كان بمثابة الخطوة الأولى للبحث عن هذه المفقودات، ووقعت 43 دولة على هذه الاتفاقية، وبالفعل بدأت محاولة إرجاع بعض الأعمال المسروقة إلى أصحابها، وقد كان أمراً في منتهى الصعوبة، ليجد بعض الناس أنفسهم من أصحاب الثروات بعد أن عادت إليهم أعمال سرقت من عائلاتهم قبل عشرات السنين”.
الهدف الرئيس غالباً من سرقة أعمال الفنانين النادرة هو بيعها والحصول على مكاسب كبيرة. تقول رشا، “على الرغم من من التقنية الحديثة في النظم التأمينية لحفظ اللوحات ضد السرقة لا تزال هذه العمليات موجودة وبكثرة، لكنها اتخذت أشكالاً وطرقاً مختلفة، فسوق بيع الآثار واللوحات الفنية في السنوات الأخيرة أصبحت رائجة، والأعمال الفنية تباع بأرقام فلكية لا يمكن تصورها، ما أدى لنهم الدخول في هذه الأسواق بطرق غير شرعية، مثل تزييف الأعمال الذي يجري الآن بطريقة متقنة تماماً، ويمثل سرقة من نوع آخر”.