لا يستطيع الإنسان أن يعلم الغاية من وجوده إلّا بتعرّفه على أمرين رئيسين؛ هما: معرفة الإنسان لحقيقته، ومعرفة الغاية من خلقه، وبذلك تتغيّر نظرة الإنسان للحياة، والمنهج الذي يسير عليه؛ فالإنسان مخلوقٌ مميّزٌ عن باقي مخلوقات الله تعالى، ودليل ذلك قول الله تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، فالله تعالى خَلق الإنسان بيده، وأسجد الملائكة له، وبعث إليه الرسل مؤيدين بالكتب منه، ومن الجدير بالذكر أنّ الإنسان خُلِق للقيام بمهمة عبادة الله تعالى وحده، حيث قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وقال القرطبي تعقيباً على الآية السابقة: إنّ السعادة للجن والإنس لا تتحقّق إلّا بتوحيد الله سبحانه، وقال ابن كثير في ذلك أيضاً: (ومعنى الآية أنّه تعالى خلق العباد؛ ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتمّ الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشدّ العذاب)، وبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ العبادة اسمٌ جامعٌ وشاملٌ لكلّ ما يحبّه الله تعالى ويرضاه، سواءً كان متعلّقاً بالأقوال أو الأعمال الظاهرة والباطنة، ومن ذلك: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، والصدق في الأقوال، والبرّ للوالدين، وأداء الأمانات إلى أهلها، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والدعاء، وذكر الله، وتلاوة القرآن الكريم، وحبّ الله ورسوله، والخشية والخوف من الله، والإنابة والرجوع إليه، والرضا بما قدّر وقضى، والتوكّل عليه، ورجاء نيل رحمته، وذلك ما أرسل لأجله الرسل عليهم السّلام، حيث قال الله تعالى على لسان نبيّه نوح عليه السلام: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)،ومثل ذلك ما كان من كلٍّ من هودٍ وصالح وشعيب وغيرهم من الرسل.
ومن الجدير بالذكر أنّ تحقيق العبودية لله تعالى من أعظم مسؤوليات العبد؛ حيث إنّها ذات منزلةٍ عظيمةٍ وجليلةٍ ورفيعةٍ.
استخلاف الإنسان بيّن الله تعالى دور الإنسان في الكون في العديد من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، وبيّن البغوي المقصود بالآية السابقة؛ بأنّ الخليفة الوارد فيها آدم، وسميّ بذلك؛ لأنّه خلف الجنّ؛ أي أنّه أتى بعدهم، إلّا أنّ المقصود الصحيح من الآية؛ أنّ الإنسان خليفة الله تعالى في الأرض؛ وذلك بإقامة هذا الإنسان لحدود الله، وتنفيذه لأوامره ووصاياه.
قال ابن كثير: إنّ الله تعالى يمتنّ على عباده بأن ذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، وأمر رسول محمد -صلّى الله عليه وسلّم- بتذكير العباد بذلك، كما أنّ المراد بالخليفة الوارد في الآية السابقة ليس آدم -عليه السلام- فقط، وإنّ ردّ الملائكة على الله تعالى في الآية السابقة لا يعدّ اعتراضاً منهم، أو حسداً لبني آدم كما يتصوّر البعض، فالله تعالى وصف الملائكة بأنّهم لا يسبقونه بالقول؛ أي أنّهم لا يسألون عن شيء لا علاقة لهم به، وإنّما المقصود من ردّ الملائكة في الآية السؤال عن الغاية والحكمة من خَلق الإنسان، وقالوا بأنّهم يعبدون الله تعالى، ويسبّحونه، ويقدّسونه إن كانت الغاية متمثّلة بالعبادة، إلّا أنّ الله تعالى ردّ عليهم بأنّه يعلم ما يجهلون، ويعلم المصلحة من ذلك، وتمثّلت هذه المصلحة والغاية بإرسال الرسل، وإيجاد الأنبياء والصدّيقيين والشهداء والصالحين والزهّاد والأولياء والأبرار والعلماء والخاشعين والمحبّين في عباده، ومن الجدير بالذكر أنّ آدم -عليه السّلام- ليس ممّن يُفسد في الأرض، أو يسفك الدماء فيها، فالخلافة في الأرض من أعظم المهمّات والمسؤوليات.