التضحية بالصحة من أجل الوظيفة.. من هم مدمنو العمل؟
ناقش مقال جديد لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية ظاهرة إدمان العمل، التي يصبح فيها الأفراد مدمنين على وظائفهم، والأثر الكبير الذي يمكن أن يحدثه ذلك على صحتهم ورفاهيتهم.
ورغم الخلط أحيانًا بين الإفراط في العمل وإدمان العمل، إلا أن الظاهرتين يمكن أن تكون لهما تأثيرات مختلفة بشكل واضح على صحة الفرد وأدائه الوظيفي.
ويأتي ذلك، بينما تشير الأبحاث إلى أن ما نسبته 15% تقريبًا من العمال يمكن تصنيفهم على أنهم مدمنو عمل حقيقيون، حيث يؤدي تفانيهم الشديد في وظائفهم إلى عواقب صحية ضارة. وهؤلاء يختلفون عن العمال المنخرطين في أعمالهم، والذين يعملون لساعات طويلة بسبب شغفهم الحقيقي بعملهم، ولا يعانون نفس الآثار السلبية.
من جانبه، فرّق العالم المختص بالسلوك البشري “تون تاريس” من جامعة أوتريخت الهولندية، بين مدمني العمل، وأولئك الذين يعملون بجد على نحو مؤقت من أجل التقدم الوظيفي أو الضرورة المالية.
فمن هم مدمنو العمل؟
لا يقتصر إدمان العمل على أي فئة ديموغرافية أو مهنة، فهو يشمل جميع الخلفيات وأنواع الوظائف. ورغم تشابه أنماط إدمان العمل، إلا أن الناس يصلون إليه عادة عبر مسارات مختلفة.
المتخصص في الموارد البشرية في نيوزلندا “جاك هاسيل”، أجرى مقابلات مع 15 شخصًا من مدمني العمل من مختلف المجالات مثل الرياضة والقانون والموارد البشرية. فمنهم من كان مدفوعًا بخلفيته الفقيرة والرغبة في تجنب العودة إلى الفقر مجددًا، في حين كان البعض الآخر مدفوعا بالحاجة الدائمة إلى التفوق والبقاء في المقدمة، رغم نشأته في عائلة ميسورة.
فضلاً عن ذلك، بعض أنواع الشخصيات معرضة على نحو خاص للوقوع في فخ العمل. وفقًا للباحثين، فإن الساعين إلى الكمال والمنفتحين والأفراد ذوي الشخصيات من النوع (أ)، الذين يتميزون بالطموح والعدوان ونفاد الصبر – معرضون على نحو خاص لإدمان العمل.
وعلى عكس التوقعات، فإن تدني احترام الذات ليس عامل خطر رئيس لإدمان العمل. قد يضع مدمنو العمل أنفسهم في عمل مكثف، ولكن ليس بالضرورة بسبب شعورهم بأنهم غير كفؤين.
علاوة على ذلك، وجد عالم السلوك “تون تاريس” وعالم الصحة المهنية “جان دي جونج”، في المراجعة السنوية لعلم النفس والسلوك التنظيمي لعام 2024، أن بعض أماكن العمل من المرجح أن تعزز الإدمان الوظيفي. وينطبق هذا على نحو خاص على الشركات التي تشجع المنافسة وساعات العمل الطويلة، في حين يواجه المديرون والعاملون لحسابهم الخاص خطرًا أكبر لأن يصبحوا مدمني عمل مقارنة بأولئك الذين يعملون تحت سيطرة شخص آخر، حسبما وجدت دراسة استقصائية أجريت العام 2016 على أكثر من 16400 عامل من النرويج.
هل مدمنو العمل أكثر إنتاجية؟
على الرغم من التفاني والجهد الذي يبذله مدمنو العمل، يكشف المقال أنهم ليسوا بالضرورة أكثر إنتاجية أو نجاحًا في وظائفهم. في الواقع، لم تجد الدراسات أي علاقة بين إدمان العمل والأداء الوظيفي. وفي بعض الحالات، يكون أداء مدمني العمل متوسطًا بسبب التعب والإرهاق، ما يزيد احتمالية ارتكاب الأخطاء. فعلى سبيل المثال، ربطت دراسة أجريت، العام 2018، على 1781 ممرضًا وممرضة في النرويج، بين إدمان العمل وارتفاع معدل حدوث أخطاء خطيرة متعلقة بالعمل، بما في ذلك إيذاء المرضى وتلف المعدات.
أيضًا، يتطرق المقال إلى العواقب الأوسع لإدمان العمل، بما في ذلك تأثيره في الحياة الشخصية والصحة. فخارج مكان العمل، يرتبط إدمان العمل بانخفاض الرضا عن الحياة، والمزيد من الشكاوى الصحية، وأنماط الحياة غير الصحية، مثل الإفراط في شرب الخمر. وعلى العكس من ذلك، فإن المتحمسين للعمل، الذين يعملون أيضًا لساعات طويلة، ولكنهم يستمتعون بوظائفهم، لم يبلغوا عن أي شكاوى صحية تقريبًا.
“أنماط حياة غير صحية”
غالبًا ما يتبنى مدمنو العمل أنماط حياة غير صحية، تتميز بعادات الأكل السيئة، وعدم ممارسة الرياضة، وقلة النوم. في حين كشفت المقابلات مع بعض مدمني العمل عن سلوكيات متطرفة، مثل حرمان النفس من الطعام واستراحات الحمام، حتى يتم تحقيق أهداف العمل.
الحد من إدمان العمل
على الرغم من عدم وجود علاجات مؤكدة لإدمان العمل، يقترح المقال بعض الإستراتيجيات التي قد تساعد على التخفيف من آثاره السلبية، حيث وجدت دراسة أجريت العام 2020 على 400 عامل بالغ في الولايات المتحدة أن مدمني العمل الذين مارسوا اليقظة الذهنية، كانوا أقل عرضة للمعاناة من الحالات المزاجية السلبية مثل التهيج والضيق.
ويمكن لأماكن العمل أيضًا اتخاذ خطوات منطقية لمساعدة الموظفين على تحقيق المزيد من التوازن. وتشمل هذه الخطوات التحقق من ساعات العمل والتواصل مع أي شخص يتمادى لفترة طويلة جدًا، والحد من الوصول إلى المواد المتعلقة بالعمل بعد ساعات العمل، وتشجيع الإدارة العليا على وضع نماذج لأساليب صحية للعمل.
باختصار، يعد التمييز بين إدمان العمل والعمل الجاد أمرًا بالغ الأهمية لفهم آثارهما على الصحة والأداء الوظيفي. وفي حين يواجه مدمنو العمل مخاطر صحية كبيرة وأخطاء وظيفية محتملة، فإن العمال الآخرين عمومًا لا يواجهون مثل هذه النتائج السلبية.