تقاريرتوب ستوري

التآلف والتسامح في الخطاب الإلهي

إنه الوسيلة الانسانية الأقوى لإطفاء نار الانتقام في النفوس، وللتنفيس عن الغضب والابتعاد عن التشفي بالآخر؛ لأن هذه سمات وأحاسيس تظهر القبح الفاعلي إذ قد يمارس ابن الانسان معروفا يرجع إلى الحُـسْن الفعلي ولكن بقبح فاعلي ــــ هذا في القاموس الكلامي ــــ وبنفس مخنوقة ومريضة ــــ في المعجم النفسي المعاصر ــــ لهذا ربما كان الحق مشروعا ولكن يتوسط الشرع الكريم بمشورة العفو عن الحق لحماية النفس من هذا القبح وهذه الأمراض الروحية..

لهذا أمر بالعفو حتى في أجواء القصاص يقول من إليه مرجع العباد: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم ﴾ [9] .

فمادة «ع. ف. ى» بكل تصريفاتها مرآة للمعنى الروحاني الذي لا يميل ولا يحيف ولا يجافي وهذه مخاييل التقوى كما هو وصف ذي الجلال: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [10] .

مفاتيح التآلف والصفات العاضدة له:

لقد شغل القرآن حيزا منه بعرض خارطة الطريق إلى الإنسانية المشتركة في مركبها الثلاثي «التآلف والتسامح والعفو»، ولكنه تعامل مع هذه المفردات ككلمات أجنبية تقتضيه تفسيرا وتبيينا للناس فنزلها منزلة الكلمات التي قد ينطق بها الناطق ولكن لا يشعر بانسباق أي معنى إلى ذهنه أو يصل إليه المعنى المجازي أو الكنائي قبل الحقيقي، وهذا أسلوب ينتجعه القرآن الكريم للفت العقول

وفي ظل هذا أطال قرآننا المجيد التركيز على هذا العدد البسيط من الكلمات وربطها بآلتها السلوكية الاتية.. إذن هي سلوك في جذر سلوك بل جذور سأضع لها سلسلة في ذهن القارئ ليعد حلقاتها كالتالي:

1 ـــ فمن القواعد المهمة الاختلاط: يقول اللطيف الخبير: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ [11] فبالرغم من شدة حراجة الموقف وصعوبة المرحلة في التعامل مع اليتيم إلا أن الخطاب الحكيم لم يتجه بالمسؤولية إلى ترك المخالطة بل إن التعبير بـ﴿ إخوانكم ﴾ مشعر منذر بحاجتهم المعنوية إلى المتألفين لهم فالتخلي عنها تخلي عنهم؟!

وفي الآية نسبة أخرى إلى مبدأ التألف ننتظر بها نهاية الورقة!

2 ـــ ومن مجددات الطاقة في العشرة: الروحانية والعبادة:

فهذا ما قد أوضحه الواحد القهار: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾[12] .

فإنه قد جعل الورود التسع في باقة الإحسان مجرورات وراء عبادة الله تعالى والحذر من الشرك به جليا كان أو خفيا؛ إذ قد يشرك السالك بين الله ورغبات نفسه وهنا يتوقف النزاع بين أمر الله والنفس بالطاعة وقوف الحق بين يدي المتنازعين؟!

وإنه سبحانه وله الحمد لم يضع الندبة إلى تلك المكارم خلف الندبة إلى عبادته إلا لأجل أن يكشف للمتنورين بالقرآن عن أن العبادة تمنح الاستعدادات الروحانية الكامنة بقاء أطول ونفسا أجمل؛ إذ ليس شكوى بني البشر فيما نرى من تعثر برامج الإحسان لديهم نقص في الاستعداد فهو فطري ولكن ثمة مشكلة عارضة وهي قاصرية التحمل وعدم عمق النفس “اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه وما قصرنا عنه فبلغناه… ” [13]

3 ـــ ومن أذرعة القوة لمن يريد التآلف في صورة السلم: الخوف من الله تعالى: مما جاء به العزيز العليم: ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [14] .

فالخوف من الله سبحانه يجعلك تقبل متألفا الآخر وإن لم يقبل هو عليك..

4 ـــ ومن بين مصادر القوة أيضا حب الله جل وعلا: قال بديع السموات والأرض: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾.

5 ـــ ومن شروطها المعتبرة تنظيم الصفوف للبرامج الدينية: لتتم بحضور الجماعة أو تنسب إليها وإن لم تكن الجماعة قد نزلت في مكان واحد وزمان فارد.. وهذا ما يصفه اللطيف الخبير وصفا جماعيا: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾، ولما كان ذلك يكاد لا يتحقق دون مظهر أتبع قائلا: ﴿ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ﴾ [16] .

 

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button