الإرهاب يتصدر المشهد السياسي في فرنسا من جديد
يعود الإرهاب من جديد ليتصدر المشهد السياسي الفرنسي بعد حادثة مقتل أربعة من أفراد الشرطة في مقر شرطة باريس الأسبوع الماضي، والتي أثارت جدلا واسعا داخل الساحة الفرنسية لتغوص البلاد من جديد في أجواء الإرهاب الذي عانت منه كثيرا خلال السنوات الأخيرة.
وكانت باريس شهدت الأسبوع الماضي مقتل أربعة أفراد من الشرطة خلال هجوم على مقر شرطة باريس نفذه شرطي يدعى “ميكاييل آربون” اعتنق الإسلام منذ 10 سنوات وتبنى أفكارا متطرفة، ويعمل في جهاز الشرطة الفرنسية منذ عام 2003.
وكشفت أجهزة مكافحة الإرهاب، التي عهدت إليها مهمة التحقيق في الجريمة ودوافعها، عن وجود مقاطع فيديو تمجد جماعة “داعش” وعملياتها، كما تبين لاحقاً أن الجاني كان على تواصل مع أشخاص ذوي أفكار متطرفة، فضلا عن ذكر زملاء له في التحقيقات أن “آربون” عبّر عن “فرحه” بالعملية الإرهابية التي استهدفت صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة عام 2015، وأسقطت مئات من القتلى والجرحى.
وخلال مشاركته في مراسم تكريم ضحايا الهجوم الإرهابي من عناصر الشرطة الثلاثاء الماضي، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بلهجة شديدة الحزم، إلى “شن معركة بلا هوادة ضد الإرهاب والتطرف”، مشددا على أن هذه الحرب “ليست ضد الديانة الإسلامية” بل هي ضد “الوحش الأصولي”، داعياً الفرنسيين جميعاً إلى التعبئة لمواجهة هذا الوحش.
وأثار هذا الحادث الإرهابي جدلا واسعا على الساحة الفرنسية حيث وجهت أصابع الاتهام إلى وزير الداخلية الفرنسي، كريستوف كاستانير، الذي تعرض لانتقادات لاذعة جراء هذا الهجوم الإرهابي وصلت إلى حد المطالبة باستقالته. وقد أقرّ كريستوف بوجود “خلل داخل أجهزة الدولة” من حيث عدم مراقبة “آربون” رغم مظاهر التشدد والتطرف التي ظهرت على سلوكياته، وتصرفاته المقلقة طوال السنوات الماضية والتي كان أبرزها تبريره لوقوع هجوم شارلي ايبدو.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها وزير الداخلية الفرنسي لانتقادات عنيفة، بل سبق ووجهت إليه انتقادات سابقة بسبب سوء إدارته لملف “السترات الصفراء”، فضلا عن حادث غرق شاب في نهر بغرب فرنسا الصيف الماضي نتيجة قيام رجال الأمن بتفريق احتفالاً موسيقياً شبابياً في ساعة متأخرة من الليل.
من جانبه أعلن رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية، ريشار فران، قبوله طلب المعارضة اليمينية تشكيل لجنة تحقيق برلمانية للنظر في ملابسات اعتداء مديرية الشرطة، وهو ما يعني بقاء هذه القضية لأسابيع طويلة في صدارة المشهد الفرنسي.
كما طالب رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب، بالقيام بتحقيقين لمراجعة أساليب استكشاف علامات الراديكالية والتطرف الديني في أجهزة الشرطة والدولة وإلزامية الإعلان عنها خشية من تكرار الحادث الارهابي الذي وقع الأسبوع الماضي.
وتخيم أجواء من القلق لدى المحققين في هذا الهجوم الإرهابي من أن يكون الجاني قد استفاد من طبيعة عمله وتمكن من نقل معلومات استخباراتية هامة لأطراف متشددة أخرى،. كذلك يسعى المحققون للتحري عن وجود أشخاص ربما قدموا مساعدات مادية أو لوجيستية للجاني.
ويحظى ملف الإرهاب بأهمية أولية في فرنسا بشكل خاص، حيث أنها من أكثر الدول الأوروبية التي تعرضت لهجمات إرهابية خلال السنوات الأخيرة الماضية، لذلك حرصت السلطات الفرنسية على حشد جهودها على مختلف الأصعدة بالتعاون مع شركائها الدوليين بهدف محاربة الشبكات الإرهابية على أراضيها وفي الخارج، فضلا عن اتخاذ كافة الإجراءات الجنائية اللازمة لوقف تمويل الجماعات الإرهابية، وتجميد الأصول الماليَّة لهم.
في هذا السياق، استضافت فرنسا العام الماضي مؤتمر دوليا لمكافحة الإرهاب تحت شعار”لا لتمويل الإرهاب” يهدف إلى مكافحة تمويل تنظيمَي القاعدة وداعش، وحضر المؤتمر ممثلون عن سبعين دولة ونحو عشرين منظمة دولية وإقليمية. والتزم المشاركون في البيان الختامي بالنهوض بالأطر القانونية الخاصة بهم وتعزيز التعاون فيما بينهم في مجال المعلومات، فضلا عن تحديد عدّة أولويات واضحة في ملف مكافحة الإرهاب واتُّخاذ مجموعة من التدابير الملموسة.
ومن بين الإجراءات التي اتخذتها فرنسا في هذا الصدد إنشاء أعمال أول نيابة عامة وطنية متخصصة بمكافحة الإرهاب، والتي انطلقت أعمالها في يونيو الماضي وتضم 26 قاضياً تحت قيادة مدع عام، وهي متخصصة في شؤون الإرهاب والجرائم ضدّ الإنسانية.
كما منحت الحكومة الفرنسية وسائل إضافية للأجهزة الأمنية لتعزيز أجهزة الاستخبارات، فضلا عن تخصيص الأموال أمام التهديدات الإرهابية.
ومن أبرز العمليات الإرهابية التي شهدتها فرنسا خلال السنوات الأخيرة هجوم “شارلي ايبدو” في يناير 2015، والذي اعتُبر نقطة الانطلاق لسلسلة من العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا لاحقا. وفي نوفمبر من العام ذاته، هزت العاصمة الفرنسية باريس وضاحيتها الشمالية سان دوني، هجمات إرهابية متزامنة شملت إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن، ، خلفت 130 قتيلا وأكثر من 400 جريح. وتعد هذه الهجمات الأكبر من حيث عدد الضحايا في تاريخ فرنسا وأكبر اعتداءات على باريس منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي يوليو 2016 قتل 84 شخصا بمدينة نيس الفرنسية نتيجة هجوم بشاحنة خلال الاحتفال بالعيد الوطني لفرنسا، كما قتل 3 أشخاص وسقط 13 جريحا في ديسمبر 2018 عندما أطلق مسلح النار على سوق عيد الميلاد بمدينة ستراسبورغ.
ورغم نجاح فرنسا في إحراز تقدم في مجال مكافحة الإرهاب خلال الفترة الأخيرة إلا أن فريق من المراقبين يرى أن الطريق لا يزال طويلا لتجاوز الثغرات والنقائص غير المفهومة التي برزت من خلال الهجوم الدموي الأخير، والذي بدا وكأنه يستهدف الدولة من قلبها من خلال استهداف مركز شرطة يفترض أنه من أكثر الأماكن تحصينا في فرنسا، وهو ما جعل هذه القضية تحتل الصدارة في المشهد السياسي الفرنسي.